من كتاب اعترافات القديس أغسطينس, الكتاب التاسع : موت القديسة مونيكا

لمـّا دنا اليومُ الذي أشرفَتْ فيه أُمِّي على مغادرةِ هذه الحياة، هذا اليومُ، أنتَ عرفْتَه يا ربُّ، ونحن جهِلْناه، اتَّفقَ أنْ كُنّا وحدَنا، أنا وهي، وذلك بتدبيرٍ منكَ خفيٍّ. كنّا متكئَيْن على النَّافذةِ المشرفةِ على حديقةِ البيتِ الذي كنَّا نسكُنُه، في أوستيا  على نهرِ التِيبِر، بعيدًا عن ضوضاءِ النَّاسِ، نستريحُ من عَناءِ سَفَرٍ طويلٍ ونستعيدُ قِوانا للإبحارِ. دارَ بينَنا حديثٌ فائقُ العذوبة. نسَيْنا ما وراءَنا ونظرْنا إلى ما أمامَنا، فتباحَثْنا معًا عن الحقيقةِ الحاضرةِ، التي هي أنتَ، وعن حياةِ القدِّيسين الخالدةِ "التي لم ترَها عينٌ، ولا سمِعَتْ بها أُذُن، ولا خطَرَتْ على قلبِ بشَر" (ر. ١ كورنتس ٢: ٩). وفتَحْنا قلبَنا لتدفُّقِ يُنبوعِكَ العلِيِّ، يُنبوعِ الحياةِ الذي هو أنتَ.
قلْتُ أمورًا، قد تكونُ مختلفةً عمّا أقولُ الآنَ من حيث الصيغةُ والألفاظُ. ولكنَّك أنتَ، يا ربُّ، تعلمُ بما كنّا نتحدَّثُ، في ذلك اليوم، وقد صَغُرَتْ إذّاك في أعينِنا أمورُ هذا العالمِ وملذَّاتُه. قالَتْ: "يا بُنّيَّ، من جهتي، لا شيءَ يَطيبُ لي بعدُ في هذه الحياةِ. ماذا لي فيها بعدَ الآن؟ ولِمَ أنا باقيةٌ؟ لا أدري. كلُّ آمالي في هذه الأرضِ قد نفَدَتْ. لأمرٍ واحدٍ فقط أردْتُ أن أبقى فيها، وهو أن أراكَ قبلَ موتي، مسيحيًّا كاثوليكيًّا. وقد وهَبَني اللهُ هذا، أن أراكَ خادمًا له وقد زهَدْتَ في السعادةِ الأرضيّةِ. فماذا لي بعدُ على هذه الأرض؟"
لا أذكرُ الآن جيّدًا بما أجبْتُها. وبعدَ خمسة أيَّامٍ أو أكثرَ، أصابَتْها الحُمّى ولزِمَتْ الفراشَ. وفي أثناءِ مرضِها، غابَتْ مرَّةً عن وعيِها وعمَّا حولَها. فأسرَعْنا إليها. ورجعَتْ إلى وعيِها بعدَ قليل، فرأتْنا، أنا وأخي، واقفَيْن بقُربِها. قالَتْ لنا كمَن يَبحَثُ عن شيءٍ: "أين كنْتُ؟"

وإذ رأَتْ حزنَنا قالَتْ لنا: "هنا تدفنان والدتَكما". لزِمْتُ الصَّمتَ محاولًا حبسَ دموعي. أمّا أخي فقال شيئًا ما، أنَّه يتمنَّى أن تموتَ في وطنِها لا في الغربةِ. فلمَّا سمعَتْه نظرَتْ إليه موبِّخةً وقد أحزَنَها ما قالَ، ثم نظرَتْ إليَّ وقالَت: "انظُرْ ما يقولُ". ثمّ وجَّهَتْ كلامَها إلينا معًا وقالَتْ: "ادفِنا جسدي حيثُما أردْتُما. لا تهتمَّا لذلك. إنَّما طلبي هو أن تَذكُراني، أينَما كنْتُما، على مذبحِ الربّ". قالَتْ هذه الكلماتِ بجَهْدٍ، ثم صمتَتْ، وقد اشتدَّ .المرضُ وزادَ من عليها  أوجاعِها.

Commentaires