سأتزوجك إلى الأبد . للقديس يوحنا للصليب

  إنَّ النَّفسَ المتَّحدةَ بالله والتي استحالَتْ إلى الله تتحرَّكُ وهي في الله الى الله العَلِيِّ المقيمِ فيها كمِثلِ حركةِ الله في ذاتِه. وهذا، كما أَفهَمُ ما أرادَ أن يقولَه القدِّيس بولس في هذه الآية: "وَالدَّلِيلُ عَلَى كَونِكُم أبنَاءَ أنَّ الله أرسَلَ رُوحَ ابنِهِ إلىَ قُلُوبِنَا، الرُّوحَ الَّذِي يُنَادِي،"أبَّا" أيُّهَا الآبُ". هذا ما يتمُّ في الكامِلِين.

 لا عجبَ إن منحَ الله النَّفسَ مِثلَ هذا المقامِ السَّامي. لأنَّ ال

لهَ هو الذي يمنحُها هذه الهبةَ، لتصلَ إلى الاتِّحادِ في الثَّالوثِ الأقدسِ اتِّحادًا يجعلُها على صورةِ الله. ولماذا يكون مستحيلًا أن تقومَ حينئذٍ بجميعِ أعمالِها، الفَهمِ والمعرفةِ والحبِّ، في الثَّالوثِ ومع الثَّالوثِ وعلى طريقةٍ شبيهةٍ كلَّ الشَّبَهِ بالثَّالوث؟ وتقومُ بذلك عن طريقِ المشاركةِ، إذ إنَّ الله هو الذي يعملُ فيها.

    كيف يتِمُّ ذلك؟ لا توجَدُ قوَّةٌ في العالمِ أو حكمةٌ تستطيعُ أن تفسِّرَ ذلك. إنَّما نستطيعُ أن نبيِّنَ كيفَ طلبَ ابنُ الله واستحقَّ لنا مثلَ هذه المكانةِ والحالةِ الرَّفيعةِ، أن نكونَ أبناءَ الله. هكذا سألَ الآب: "يَا أبَتِ إنَّ الَّذِينَ وَهَبْتَهُم لِي، أُرِيدُ أن يَكُونُوا مَعِي حَيثُ أكُونُ" (يوحنا 27: 24)، أي أن يعملوا العملَ نفسَه الذي أقومُ به وذلك عن طريقِ المشاركةِ معي. وقالَ أيضًا: "لا أدعُو لَهُم وَحدَهُم، بَل أدعُو أيضًا لِلَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِي عَن كَلامِهِم. فَلْيَكُونُوا بِأجمَعِهِم وَاحِدًا كَمَا أنَّكَ فِيَّ، يَا أبَتِ، وَأنَا فِيكَ، فَلْيَكُونُوا هُم أيضًا فِينَا، لِيُؤمِنَ العَالَمُ بِأنَّكَ أنتَ أرسَلْتَنِي. وَأنَا وَهَبْتُ لَهُم مَا وَهَبْتَ لِي مِن المَجدِ لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحنُ وَاحِدٌ. أنَا فِيهِم وَأنتَ فِيَّ لِيَبلُغُوا كَمَالَ الوَحدَةِ وَيَعرِفَ العَالَمُ أنَّكَ أنتَ أرسَلتَنِي وَأنَّكَ أحبَبْتَهُم كَمَا أحبَبْتَنِي" (يوحنا 17: 20- 23).

    ويتمُّ هذا بإشراكِهم في الحبِّ نفسِه الذي يشترِكُ فيه مع الابن، ولكنْ ليس من حيثُ الطَّبيعةُ كما في الابن، بل من حيثُ الاتِّحادُ والاستحالةُ النَّاجمةُ عن الحبِّ. لأنَّه لا يُعقَلُ أن يَطلُبَ الابنُ من الآبِ أن يكونوا مقدَّسِين ومتَّحدِين بهما من حيثُ الطَّبيعةُ والجوهرُ كوحدةِ الآبِ والابن. إنَّما يَعنِي فقط أن يكونوا واحدًا بوَحدةِ الحبِّ مثلَ الآبِ والابنِ في وحدةِ حبِّهِما. فالنُّفوسُ تمتلِكُ إذًا بالمشاركةِ الصَّلاحَ الذي يمتلكانه هما من حيثُ الطَّبيعةُ. ولهذا تُؤَلَّهُ النُّفوسُ بالمشاركة، وتصِيرُ شريكةً وشبيهةً بالله.

    وفي هذا قالَ القدِّيسُ بطرس: "عَلَيكُم أوفَرُ النَّعمَةِ وَالسَّلامِ بِمَعرِفَتِكُم للهِ وَلِيَسُوعَ المسِيحِ رَبِّنَا. فَإنَّ قُدرَتَهُ الإلَهِيَّةَ مَنَحَتْنَا كُلَّ مَا يَؤولُ إلَى الحَيَاةِ وَالتَّقوَى. ذَلِكَ بِأنَّهَا جَعَلَتْنَا نَعرِفُ الَّذِي دَعَانَا بِمَجدِهِ وَقُوَّتِهِ. فَمَنَحَنَا بِهِمَا أثمَنَ المَوَاعِدِ وَأعظَمَهَا، لِتَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإلَهِيَّةِ" (2 بطرس 1: 2- 4). يبيِّنُ هذا أنَّ النَّفسَ تعملُ في شركةٍ مع الثَّالوثِ بحسبِ الوَحدةِ المذكورةِ أعلاه. وهي شركةٌ لا تبلغُ كمالَها إلا في الحياةِ المـُقبِلة. إلا أنَّه يمكنُ أن تَبدَأَ في هذه الحياةِ أيضًا، فيتحقِّقَ شيءٌ منها، يكونُ مِثلَ تذوُّقٍ سابقٍ لِما سنصلُ إليه بصورةٍ كاملة.

    أيَّتُها النُّفوسُ التي خُلِقَتْ لتتمتَّعَ بهذه المواهبِ السَّامية، ماذا تعملين؟ وفِيمَ تجتهدين؟ يا لَعَمَى بني آدم. إنّكم تستحقُّون الشَّفقة! أمَعَ كلِّ هذا النُّورِ لا ترَوْن؟ ومعَ كلِّ هذا الكلامِ لا تسمعون؟ 

من النشيد الروحي للقديس يوحنا للصليب


(نسخة أ صفحة 38)


Commentaires