من كتابات القديس أمبروزيوس الأسقف في الأسرار


هذا السر الذي تقبله هو كلام المسيح الذي يصنع

    نرى أنَّ النِّعمةَ تفعلُ أكثرَ من الطَّبيعة، ونرى أنَّ نعمةَ النُّبُوَّةِ أيضًا لها بركةٌ وقوّة. وإذا استطاعَتِ البركةُ البشريّةُ أن تحوِّلَ الطَّبيعة، فماذا نقولُ في التَّكريسِ الإلهيِّ حيث المسيحُ الفادي نفسُه هو الذي يفعلُ بقوّةِ كلمتِه؟ لأنَّ السِّرَّ الذي تقبلُه (أي الإفخارستيا) يتِمُّ بقوّةِ كلمةِ المسيح. إذا استطاعَ النَّبيُّ إيليا أن يُنزِلَ بكلمتِه النَّارَ من السَّماء، ألا يستطيعُ المسيحُ أن يحوِّلَ بكلمتِه طبيعةَ الكائنات؟ قرَأْتَ عن جميعِ أعمالِ هذا الكونِ أنّها تمّتْ بقوّةِ كلمةِ الله، كما جاءَ في المزمور: "إنَّهُ قَالَ فَكَانَ، وَأمَرَ فَوُجِدَ" (مزمور 32: 9). فإنِ استطاعَ المسيحُ  بكلمتِه أن يوجِدَ من العدمِ ما لم يكُنْ موجودًا، أفلا يستطيعُ بكلمتِه أيضًا أن يحوِّلَ طبيعةَ الموجودِ إلى طبيعةٍ لم تكُنْ فيه؟ خَلْقُ الكائناتِ هو أمرٌ أعظمُ بكثيرٍ من تحويلِ طبيعتِها.
    ولماذا نلجأُ إلى البراهين؟ لننظُرْ بالأحرى إلى الأمثلةِ والأسرارِ التي نراها في التجسُّدِ لنُدرِكَ سرَّ الحقيقة. هل وُلِدَ يسوعُ المسيحُ من مريمَ البتولِ بحسبِ سُنَّةِ الطَّبيعة؟ بحسبِ سُنّةِ الطَّبيعةِ تَلِدُ المرأةُ من الرَّجل. فمن الواضحِ إذًا أنّ البتولَ وَلدَتْ على غيِر سُنَّةِ الطَّبيعة. وما نصنعُه في هذا السِّرِّ (أي الإفخارستيا) هو جسدُ المسيحِ المولودُ من بتول. فلماذا تطلبُ هنا ( أي في الإفخارستيا) سُنّةَ الطَّبيعةِ في جسدِ المسيح، والرَّبُّ يسوعُ نفسُه وُلِدَ من البتولِ على غيرِ سُنَّةِ الطَّبيعة؟ فجسدُ المسيحِ نفسُه الذي ماتَ على الصَّليبِ ودُفِنَ هو حقًّا هذا الجسدُ الذي يُوجَدُ في هذا السِّرِّ (أي الإفخارستيا).
    قالَ الربُّ يسوعُ نفسُه: "هذا هو جسدي". قبلَ التلفُّظِ بهذه الكلماتِ السَّماوِيّةِ كانَ شيئًا آخَر. وبعدَها، (أي بعدَ كلماتِ التَّقديسِ) صارَ جسدًا. ثم قال: "هذا هو دمي". قبلَ كلماتِ التَّقديسِ كانَ شيئًا آخَر. وبعدَ كلماتِ التَّقديسِ صارَ دمًا. وأنتَ تقولُ: آمين. أعني: "حقًّا هو كذلك". فليعترفْ العقلُ إذًا بما ينطقُ به الفم، وليُقِرَّ الوِجدان بما يسمعُه عِبرَ الكلام.
    ولهذا عندما ترى الكنيسةُ هذه النِّعمةَ الكبيرة، فإنّها تحُثُّ أبناءَها والمقرَّبين فيها على الإقبالِ على هذا السِّرِّ: "كُلُوا أيُّها الأخِلَّاء، اشرَبُوا وَاسكَرُوا أيُّها الأحِبَّاء" (نشيد 5: 1). ماذا نأكلُ وماذا نشرب؟ قالَ الرُّوحُ القُدُسُ في مكانٍ آخَرَ على لسانِ النَّبيِّ: "ذُوقُوا وَانظُرُوا مَا أطيَبَ الرَّبَّ، طُوبَى لِلرَّجُلِ المُعتَصِمِ بِهِ" (مزمور 34: 9). المسيحُ هو حقًّا في هذا السِّرّ، لأنَّ هذا هو جسدُ المسيحِ حقًّا. وليسَ هو طعامًا جسديًّا بل هو طعامٌ روحيٌّ. ولهذا قالَ الرَّسولُ بولس في الآياتِ التي ترمُزُ إليه إنّ آباءَنا "أكَلُوا طَعَامًا رُوحِيًّا، وَشَرِبُوا شَرَابًا رُوحِيًّا" (1 قورنتس 10: 3). جسدُ الله هو جسدٌ روحيٌّ، وجسدُ المسيحِ هو من الرُّوحِ القُدُس، لأنّ الرُّوحَ هو المسيح، كما نقرأ: "إنَّ الرُّوحَ أمامَ وجهِنا هو المسيحُ الرَّبّ" (المراثي 4: 20 بحسب الترجمة السبعينية). وقال القدّيسُ بطرس في رسالته: "ماتَ المسيحُ من أجلِكم". وأخيرًا إنَّ هذا الطَّعامَ يقوِّي قلبَنا وهذا الشَّرابَ يفرِّحُ قلبَ الإنسان (ر. مزمور 103: 15) كما قال النَّبيُّ.

Commentaires