معرفةُ الكتابِ المقدَّسِ كلِّه من معرفةِ يسوعَ المسيح, للقديس بونافنتورا الأسقف

  ليسَ الكتابُ المقدَّسُ ثمرةَ أبحاثٍ بشريَّة. إنّما مصدرُه هو الوحيُ الإلهيُّ، الآتي "من لَدُن أبي الأنوار، الذي منه كلُّ أُبُوَّةٍ في السَّماءِ وعلى الأرض". منه وبابنِه يسوعَ المسيح يُفاضُ الرُّوحُ القُدُسُ فينا. وبالرُّوحِ القُدُسِ، الذي يوزِّعُ مواهبَه ويُشرِكُ فيها كلَّ واحدٍ بحسبِ مشيئتِه، ننالُ الإيمان. وبالإيمانِ يسكُنُ المسيحُ في قلوبِنا. هذه هي معرفةُ يسوعَ المسيح، وهي أساسُ فَهمِ الكتابِ المقدَّسِ كلِّه وأساسُ ثباتِه.

    ومن ثَمَّ من المستحيلِ أن يَفهمَ أحدٌ الكتابَ المقدَّسَ ما لم يكُنْ الإيمانُ بيسوعَ المسيحِ قد أُفِيضَ فيه: فهو المصباحُ والمدخلُ والأساسُ لكلِّ الكتابِ المقدَّس. لأنَّنا ما دُمْنا نعيش في غربتِنا بعيدين عن الله، فإنَّ الإيمانَ هو نفسُه القاعدةُ الصَّلْبَةُ والنُّورُ الهادي والبابُ الذي يُدخِلُنا إلى جميعِ الإلهاماتِ الفائقةِ الطَّبيعة. وبحسبِ مقدارِ إيمانِنا يكونُ قبولُنا للحِكمةِ التي يمنحُنا إيّاها الله، "فلا نذهَبْ  في الاعتدادِ بأنفسِنا مذهبًا يجاوزُ المعقول، بل نتعَقَّلُ ونكونُ من العقلاء، كلُّ واحدٍ على  مقدارِ ما قسمَ الله له من الإيمان" (ر. روما ١٢: ٣).

    ليسَ الكتابُ المقدَّسُ نفسُه أو ثمرتُه أمرًا هيِّنًا، بل هو مِلءُ السَّعادةِ الأبديَّة. لأنَّ الكتابَ الذي يتضمَّنُ كلماتِ الحياةِ الأبديَّةِ كُتِبَ ليس فقط لكي نؤمنَ، ولكن لكي تكونَ لنا الحياةُ الأبديَّةُ أيضًا، حيث  نشاهدُ ونُحِبُّ، وحيثُ تُلَبَّى جميعُ رَغَباتِنا. ومتى استُجِيبَتْ رَغَباتُنا عرَفْنا حقًّا "المحبّةَ التي تفوقُ كلَّ معرفة، وامتلأْنا بكلِّ ما في الله من كمال" (ر. أفسس ٣: ١٩). والهدفُ من الكتابِ المقدَّسِ هو أن يُدخِلَنا في هذا الامتلاء، بحسب ما قال القدِّيسُ بولس في الآياتِ السَّابقة.  فبِحسبِ هذه الغايةِ إذًا، وبهذه النيَّة، يجبُ أن يُدرَسَ  الكتابُ المقدَّسُ ويُعَلَّمَّ ويُفهَمَ.

    وحتى نجنِيَ هذا الثَّمرَ، ونَصِلَ إلى هذا الهدفِ، ونسيرَ في الطَّريقِ القويمِ بهُدى الكتابِ نفسِه، يجبُ أن نبدأَ بالبداية: أي أن نتقدَّمَ بإيمانٍ نقيٍّ إلى الآبِ أبي الأنوار، ونجثُوَ أمامَه بقلوبِنا، حتى يمنحَنا بابنِه وفي الرُّوحِ القُدُسِ أن نَعرِفَ يسوعَ المسيح معرفةً حقيقيَّة، ومع المعرفةِ يمنحَنَا المحبَّة. فإذا ترسَّخْنا في الإيمانِ وتأصَّلْنا في المحبَّة استطَعْنا أن نعرِفَ ما "العَرضُ والطُّولُ والعلُوُّ والعُمقُ" في الكتابِ المقدَّس، وبلَغْنا بهذه المعرفةِ إلى المعرفةِ الكاملة، وإلى الحبِّ المتَّقدِ للثَّالوثِ القدُّوس، الذي إليه تصبو قلوبُ جميعِ القدِّيسين، وحيثُ وجودُ وكمالُ كلِّ حقٍّ وكلِّ خير.


من مؤلفات القديس بونافنتورا الأسقف


(المقدمة: مجموعة المؤلفات 5، 201-202)

Commentaires