صوت يوحنا والمسيح كلمة الله عظة 293 للقدّيس أغسطينوس

يوحنا هو الصَّوت. والرَّبُّ هو الكلمةُ الذي كانَ في البدء (يوحنا 1: 1). يوحنا صوتٌ عابرٌ، والمسيحُ هو الكلمةُ الأزليُّ الكائنُ منذُ البدء. 
إذا زالَ الكلمة، فماذا ينفعُ الصَّوت؟ حيث لا يُوجَدُ معنًى مفهوم، فما تبقَّى هو ضجيجٌ لا معنى له. الصَّوتُ من غير الكلمةِ يقعُ في الأذن، ولكنّه لا يمَسُّ القلب.
وَلْننظُرْ كيف تَجرِي الأمورُ إن أرَدْنا أن نفكِّرَ في قلبِنا. إذا فكَّرْتُ فيما أقولُ، فالكلمةُ هي في قلبي. وأمَّا إذا أرَدْتُ أن أكلِّمَكَ، فأنا أبحثُ كيف أضعُ في قلبِكَ ما هو أيضًا في قلبي.
حين أبحثُ كيف أوصِّلُ إليكَ الكلمة، وكيف أُدخِلُها في قلبِك بعدَ أن تكوَّنَتْ في قلبي، أستخدِمُ الصَّوت، وبالصَّوتِ أكلِّمُك. رنينُ الصَّوتِ يوصِّلُ إليكَ معنى الكلمة. وبعدَ أن يوصِّلَ إليك رنينُ الصَّوتِ معنى الكلمة، ينقطعُ الرَّنينُ ويَغِيبُ. وأمّا الكلمةُ التي وصَّلَها إليكَ الرَّنينُ فهي الآن في قلبِكَ، وفي الوقتِ نفسِه لم تَبتَعِدْ عن قلبي.
أوَلا يبدو لكَ أنَّ رنينَ الصَّوتِ الذي وصَّلَ إليكَ الكلمةَ ثم غابَ يُشبِهُ مضمونَ هذا الكلام: "لا بُدَّ لَهُ مِن أنْ يَكبُرَ، وَلا بُدَّ لي مِن أن أصغُرَ". (يوحنا 3: 30). رنينُ الصَّوتِ أحدثَ ضجيجًا وأدّى خدمةً إذ وصَّلَ المعنى ثم غاب. وكأنّه يقول أيضًا: "هوذا فَرَحِي قَد تَمَّ" (يوحنا 3: 29). لنحفظْ الكلمة. لا نَفقِدْ الكلمةَ التي تكوَّنَتْ في القلب.
أتريدُ أن ترى صوتًا عابرًا وألوهِيّةُ الكلمةِ باقية؟ أين هي الآن معموديّةُ يوحنا؟ لقد أدَّى خدمةً ثم غاب. أما معموديّةُ المسيح فإنَّنا نَقْبَلُها حتى اليوم. كلُّنا نؤمنُ بالمسيح، ونرجو الخلاصَ من المسيح: هذا ما قالَه الصَّوت. 
وبما أنّه من الصَّعبِ التَّمييزُ بينَ الصَّوتِ والكلمة، حَسِبَ النَّاسُ أنَّ يوحنا هو المسيح. حَسِبوا أنَّ الصَّوتَ هو الكلمة. ولكنَّه عرَّف بنفسِه أنّه الصَّوتُ فقط، لكيلا يكونَ عائقًا دونَ معرفةِ الكلمة. قال: "لستُ المسيحَ ولا إيليا ولا النَّبيّ". فأجابوه: "من أنت؟" قال: "أنا صوتُ منادٍ في البرّيّة"، أنا صوتٌ يصرخ في الصَّمت: "أعِدُّوا طريقَ الرب". وكأنّه يقول: أنا موجودٌ لكي أُدخِلَ الكلمةَ في القلب. ولكن حيث أريدُ أن أوصِّلَ الكلمة، فهو لا يأتي إلا إذا أعدَدْتُمُ الطَّريق.
ما معنى: "أعِدُّوا الطَّريق"؟ معناه: صلُّوا كما يجبُ أن تكونَ الصَّلاة. ما معنى "أعِدُّوا الطَّريق"؟ معناه: تواضعوا في فكرِكم. ومنه تعلَّمُوا مثالَ التَّواضع. حسِبَ النَّاسُ أنّه المسيح، فقالَ إنّي لستُ ما تَحسَبُون، فلم يستغلَّ ضلالَ غيرِ
هِ ليَصنَعَ مجدًا لنفسِه.
لو قال: أنا المسيحُ، لآمَنوا به بسهولة، لأنّهم كانوا يصدِّقون ما يقولُ حتى قبلَ أن يتكلَّمَ. ومع ذلك لم يقُلْ، بل عرَّفَ نفسَه، وميَّزَ نفسَه، ووضَعَ نفسَه.
رأى أين يجدُ الخلاصَ، وعرَفَ أنّه قِنديلٌ يُضيء، وخافَ أن تُطفِئَه ريحُ الكبرياء.

Commentaires